فصل: الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ:

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ إنَّهَا، إنْ وَلَدَتْ لِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ؛ صَحَتْ الْوَصِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، أَوْ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا عَلِقَتْ بَعْدَهُ.
فَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِالشَّكِّ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ طَلَاقٍ، أَوْ وَفَاةٍ، فَوَلَدَتْ إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَلَهُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ زَوْجِهَا إلَى سَنَتَيْنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثَبَاتِ النَّسَبِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فُرِّقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ، وَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْقَبْضِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ؛ فَلَهَا وَصِيَّةُ أَلْفٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ؛ فَلَهُ وَصِيَّةُ أَلْفَانِ، فَوَلَدَتْ جَارِيَةً لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَوَلَدَتْ غُلَامًا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ؛ فَلَهُمَا جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا أُوصِي لَهُمَا جَمِيعًا لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُمَا فِي الْبَطْنِ أَمَّا الْجَارِيَةُ، فَلَا شَكَّ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا وُلِدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمُوصِي فَعُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْبَطْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَكَذَا الْغُلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ لَأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ مَعَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَوْأَمٌ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَطْنِ كَوْنُ الْآخَرِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا عَلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّ الْغُلَامَيْنِ شَاءُوا وَأَيَّ الْجَارِيَتَيْنِ شَاءُوا إلَّا أَنَّهُ مَا أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَكَانَ الْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ أَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّهَا صَحِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَحَدِهِمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهمَا شَاءُوا، فَقَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تِلْكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ جَهَالَةُ الْمُوصَى لَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هاهنا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ مُقَارِنَةٌ لِلْعَقْدِ، وَهَاهُنَا طَارِئَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ حَالَ وُجُودِهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا فِي الْبَطْنِ لَا إلَى أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَإِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ، ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ.
وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَالْعِدَّةِ إذَا قَارَنَتْ النِّكَاحَ مَنَعَتْهُ مِنْ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ لَا تَرْفَعُهُ كَذَا هَاهُنَا، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِ فُلَانَةَ غُلَامًا؛ فَلَهُ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً؛ فَلَهَا أَلْفٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا كَذَا فَلَهُ كَذَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ بَعْضُ مَا فِيهِ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّة، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ؛ فَلَهَا كَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ؛ فَلَهُ كَذَا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ، وَقَدْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فَوُجِدَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ دَابَّةِ فُلَانٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهَا، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُدَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا هُوَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
(أَمَّا) إنْ بَيَّنَ السَّبَبَ (وَأَمَّا) إنْ لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ أَطْلَقَ، فَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ (فَإِمَّا) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ.
(وَإِمَّا) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنِّي اسْتَهْلَكْتُ مَالَهُ، أَوْ غَصَبْتُ أَوْ سَرَقَتْ؛ جَازَ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا، هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنِّي اسْتَقْرَضْتُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى سَبَبٍ هُوَ مُحَالٌ عَادَةً، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبًا بَلْ سَكَتَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ؛ وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِالْحَمْلِ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ؛ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُطْلَقَ بِالدَّيْنِ يُرَادُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمُدَايَنَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ لِثُبُوتِ الدَّيْن، وَإِنَّهُ فِي الدَّيْنِ هاهنا مُحَالٌ عَادَةً، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا مَيِّتًا لَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَإِنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَ كُلُّ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِآدَمِيٍّ وَحَائِطٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ، وَهِيَ مَا حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ الْأَعْمَشِ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَانَ مَرِيضًا، فَعَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَهُ يُوصِي لِابْنَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: لِأَنَّكَ رَوَيْتَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَقَالَ سُلَيْمَانُ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: يَا مَعْشَرَ الْفُقَهَاءِ أَنْتُمْ الْأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ.
فَقَدْ نَفَى الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ نَصًّا.
وَأَشَارَ إلَى تَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ؛ لَكَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، وَفِيهِ إيذَاءُ الْبَعْضِ وَإِيحَاشُهُمْ، فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ وَمَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ، فَهُوَ حَرَامٌ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ، ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ الْأَخُ صَارَ وَارِثَ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَا ابْنَ لَهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِوَارِثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْجُوبًا بِالِابْنِ.
وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْوِرَاثَةُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ لِلْحَالِ لِيُعْتَبَرَ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ وُجُودِهَا، بَلْ هِيَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ وَهَبَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ شَيْئًا، ثُمَّ مَاتَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ صَحِيحٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِدَيْنٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَصِيرُ مِلْكًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا وَارِثَةً لَهُ حِينَئِذٍ، وَهِيَ وَارِثَتُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ (فَأَمَّا) الْإِقْرَارُ فَاعْتِبَارُهُ حَالَ وُجُودِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ حَالَ وُجُودِهِ فَاعْتِرَاضُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ وَكَذَا لَوْ وَهَبَ لَهَا هِبَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا وَلَوْ أَوْصَى وَهُوَ مَرِيضٌ، أَوْ صَحِيحٌ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثِهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ اعْتِبَارَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَارِثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ- تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْأَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُعْتَبَرُ حَالَ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، فَاعْتِرَاضُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ الثَّابِتَ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَرْأَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْوِرَاثَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ سَبَبَهَا كَانَ قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْكُفْرُ، فَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُعْمَلُ السَّبَبُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ زَاوَلَ الْمَانِعِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ يُعْمَلُ السَّبَبُ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ، وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْعَامِلَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ ذَاتَ الْبَيْعِ وَذَاتَ الْقَرَابَةِ فَتَسْتَنِدُ السَّبَبِيَّةُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ ذَاتِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، أَوْ يُقَالُ إنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ، وَسَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبَ الْقَرَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ وُجُودِهَا لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى حَالِ وُجُودِهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا لِوَارِثِهِ فَيَصِحَّ، وَيَثْبُتَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى التَّقْرِيبِ الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ ابْنُهُ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَأَوْصَى لَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَانَ اعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ، وَهُوَ وَارِثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ، أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً، فَقَبَضَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لِمَوْلَاهُ وَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوصِي، فَجَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْهِبَةَ يَقَعَانِ لَهُ لَا لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِوَارِثِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، فَلَا يَصِحُّ، أَوْ لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ سَبَبِ شُبْهَةِ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِقْرَارِ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ.
وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَأَجَازَ الْبَاقُونَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لَحَقِّهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْأَذَى وَالْوَحْشَةِ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ»، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا.
وَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ الْوَارِثِ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ رَدُّوا، جَازَتْ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ الْوَارِثِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُصْرَفُ الثُّلُثُ كُلُّهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَالْتَحَقَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْعَدَمِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ إنَّ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لِلْحَيِّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَيْسَتْ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اتَّصَلَتْ بِهَا الْإِجَازَةُ جَازَتْ، وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَارِثَ مَحَلٌّ لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُضَافَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ يَكُونُ بَاطِلًا دَلَّ أَنَّهُ مَحَلٌّ، وَأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً إلَّا أَنَّهَا تَبْطُلُ فِي حِصَّتِهِ بِرَدِّ الْبَاقِينَ، وَإِذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً، فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ، ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ، فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى حَالِهَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيَّيْنِ؛ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا إذْ أَقَرَّ لَهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْوَارِثُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ تَصَادَقَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُمَا الْإِقْرَارُ أَصْلًا لَا لِلْوَارِثِ، وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، فَبُطْلَانُهُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ، وَالْإِقْرَارُ لَهُمَا بِالدَّيْنِ إخْبَارٌ عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ صَحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ؛ لَكَانَ فِيهِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ إخْبَارًا عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَالْوَارِثُ يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِيمَا يَقْبِضُ، ثُمَّ تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَفِيهِ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ لَا يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ.
وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ أَصْلًا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْن وَرَثَةِ الْمُقِرِّ فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ الْمُقِرَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا، فَمِنْ زَعَمِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ هَذَا إذَا تَصَادَقَا، فَإِنْ تَكَاذَبَا، أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ شَرِكَةَ الْوَارِثِ، أَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ إقْرَارَهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا بَطَلَ كَانَ الْمَالُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُقِرِّ، فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ، فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَكُونُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ يُكَذِّبُ الْوَارِثَ، وَالْوَارِث يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ فَالْخَمْسمِائَةِ مِمَّا أَصَابَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ الْوَارِثُ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ خَمْسُمِائَةٍ دِينٌ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى الشَّرِكَةَ فِيهِ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي الشَّرِكَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَأْخُذُ تِلْكَ الْخَمْسمِائَةِ كُلَّهَا، وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ وَارِثُهُ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ.
(أَمَّا) إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ يَصِيرُ الْمُوصَى بِهِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا إذَا عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَهُوَ كَانَ حُرًّا عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدِ نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَبْدٌ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ وَمَوْلَاهُ وَارِثُهُ، وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ تَحْصُلُ لِوَارِثِهِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، فِي الْحَالِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَفِي الْمَآلِ بِالْعَجْزِ، وَلَوْ أَوْصَى لَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ (إمَّا) أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَيَصِيرَ أَجْنَبِيًّا، فَتَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ (وَإِمَّا) أَنْ يَعْجَزَ وَيُرَدَّ فِي الرِّقِّ، فَيَصِيرَ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَتَجُوزُ، كَمَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ قَاتَلَ الْمُوصِي قَتْلًا حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ؛ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَنَا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَالَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمَلُّكٌ وَالْقَتْلُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَهَذَا نَصٌّ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» ذَكَرَ الشَّيْءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ عَنْ عُمُومَاتِ الْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا لِلْقَاتِلِ مِيرَاثًا وَعَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرِثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَيُرْوَى لَا يُوَرَّثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا مِنْهُ بَيَانٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى زَمَنِ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَذَكَر مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هَذِهِ الْآثَارَ فِي الْأَصْلِ.
وَقَالَ: وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَتَأَذَّى بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقَاتِلِ، كَمَا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِوَضْعِهَا فِي الْبَعْضِ فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ نَظَرًا لَهُمْ لِئَلَّا يُزِيلَ الْمُوَرِّثُ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِمْ لِعَدَاوَةٍ، أَوْ أَذًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ لَكِنْ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُورَثِ نَظَرًا لَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَا هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ التَّبَرُّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْوَارِثِ.
بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِمَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ، فَتَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ قَتْلٌ وَإِنَّهُ جَازَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ عَقْلًا وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَقَعُ تَمْلِيكًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَقَعُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ، أَوْ تَأَخَّرَتْ وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ الْقَاتِلِ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا لَمُكَاتَبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي عَبْدِ الْوَارِثِ وَمُكَاتَبِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِابْنِ الْقَاتِلِ وَلِأَبَوَيْهِ وَلِجَمِيعِ قَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَلَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِهِمَا وَصِيَّةً لِصَاحِبِهِ.
وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ حِينَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ وَصِيَّةً لِقَاتِلِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ عَبْدَ الْمُوصِي فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَأَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَلَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ.
(وَأَمَّا) بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلًا، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ.
(وَأَمَّا) صِحَّةُ الْإِعْتَاقِ وَنَفَّاذُهُ فَفِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ حَصَلَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ، وَالْعَبْدُ قَاتِلٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَالْإِعْتَاقُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ لَا إلَى أَحَدِهِمَا مُتَغَايِرَانِ بَلْ مُتَنَافِيَانِ حَقِيقَةً، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ يُنْجَرُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا غَيْرُ وَالثَّانِي إنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ مَرْدُودَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً صُورَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَالسِّعَايَةُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ السِّعَايَةُ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ صُورَةً يَحْتَمِلُهُ مَعْنًى بِرَدِّ السِّعَايَةِ الَّتِي هِيَ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْعَبْدُ لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَقُ، وَيَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَمَّا بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ.
وَأَمَّا نَفَاذُ الْعِتْقِ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ مَالِهِ، فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُوصَى مَلَكَ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ وَتَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ مِنْهُ يَكُونُ إعْتَاقًا لِثُلُثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يُنْقَضُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِرَدِّ السِّعَايَةِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ نَصًّا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالتَّدْبِيرِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِثُلُثِ الرَّقَبَةِ.
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ الَّذِي عَتَقَ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى بِالسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ فَيُرَدُّ بِرَدِّ السِّعَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا، وَمَتَى عَتَقَ كُلُّهُ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى فَاتَّفَقَ الْجَوَابُ، وَهُوَ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِهِمَا، فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-، لِأَبِي يُوسُفَ مَا رَوَيْنَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ لَقَاتِلٍ شَيْءٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِهَا.
وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْقَتْلُ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَمْنَعُ الْقَتْلَ، وَلَهُمَا أَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقَاتِلِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْبَعْضِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ، فَهاَهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَنْتَفِعُونَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِذَا جَازُوا، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَجَازَتْ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ قِصَاصًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَرَامٍ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، فَكَذَا حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ.
وَكَذَا الْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ.
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ، وَيَجِيءُ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِوَارِثِهِ، كَمَا لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لَهُ، وَإِذَا كَانَ يَذْهَبُ، وَيَجِيءُ كَانَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فَيَجُوزُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَكَذَا الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ، وَعَفْوُ الْمَرِيضِ عَنْ الْقَاتِلِ فِي دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ هُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، أَوْ الْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِالْمَالِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً؛ يَجُوزُ الْعَفْوُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يُوجِبُ الْمَالَ، فَكَانَ عَفْوُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ وَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ الثُّلُثِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ مِنْ الثُّلُثِ فِي حِصَّةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ، وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ هاهنا مِنْ الثُّلُثِ عُلِمَ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ حَتَّى تَكُونَ وَصِيَّةً لِعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ أَجَازُوا؛ جَازَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ اخْتِلَافًا وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ إنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ- تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْقَتْلُ، وَإِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِجَازَةِ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الْمِيرَاثَ أَجَازَتْهُ الْوَرَثَةُ أَوْ لَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ وَالْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ لَا تَجُوزُ، أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَمْ لَمْ تُجِزْ كَذَا الْقَاتِلُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِمَكَانِ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، فَيَجُوزُ عِنْدَ إجَازَتِهِمْ، كَمَا جَازَتْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ إجَازَةِ الْبَاقِينَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ وَهُوَ مَالِكٌ، وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَلَمَّا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ هُنَاكَ فَلَأَنْ تَلْحَقَهَا هاهنا أَوْلَى.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا عِنْدَ مُسْتَأْمَنٍ، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ إيَّاهُ يَكُونُ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْخَرَابِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَأَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ؛ جَازَ.
وَكَذَا لَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ» أَنْ يُوصِيَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَذَا لَهُمْ، وَسَوَاءٌ أَوْصَى لِأَهْلِ مِلَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، فَأَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ.
ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فِي عَهْدِنَا، فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي عَهْدِنَا، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ.
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ-: أَشْبَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ إلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْحِرَابِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّا مَا نُهِينَا عَنْ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} وَقِيلَ إنَّ فِي التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا وَكَذَا كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ فِي إصْلَاحِهِ وَعِمَارَتِهِ وَتَجْصِيصِهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْلِمِ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِخْرَاجِ مَالِهِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا التَّمْلِيكَ إلَى أَحَدٍ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِبَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ بِوَصِيَّةٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْبَيْعَةِ، أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إصْلَاحِهَا.
أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ، أَوْ لِلْبَيْعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي وَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَمْرًا، هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، أَوْ كَانَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُمْ وَأَمَّا إنْ كَانَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ بِعِتْقِ الرِّقَابِ، أَوْ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، أَوْ أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانَ مُسْتَهْزِئًا فِي وَصِيَّتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ وَالْهَزْلُ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا بِأَنْ أَوْصَى بِأَرْضٍ لَهُ تُبْنَى بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بِعِمَارَةِ الْبِيعَةِ، أَوْ الْكَنِيسَةِ، أَوْ بَيْتِ النَّارِ، أَوْ بِالذَّبْحِ لِعِيدِهِمْ، أَوْ لِلْبَيْعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وَصِيَّتِهِمْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا مَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ الْحَقِيقَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ كَالْحَجِّ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِيمَا يَدِينُونَ، كَمَا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
وَلَوْ بَنَى الذِّمِّيُّ فِي حَيَّاتِهِ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ كَانَ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْمُسْلِمُ لَوْ جَعَلَ دَارًا وَقْفًا إنْ مَاتَ؛ صَارَتْ مِيرَاثًا كَذَا هَذَا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُجْعَلُ حُكْمُ الْبَيْعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَحُكْمِ الْمَسْجِدِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمَسْجِدِ يُخَالِفُ حَالَ الْبَيْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ صَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ مَنَافِعُ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْبَيْعَةُ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَنَافِعِهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْكُنُ فِيهَا أَسَاقِفَتُهُمْ وَيُدْفَنُ فِيهَا مَوْتَاهُمْ، فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مَنَافِعِهِمْ، فَأَشْبَهَ الْوَقْفَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَقْفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ عِنْدَهُ، فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ بِغَلَّةِ جَارِيَتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي نَفَقَةِ الْمَسْجِدِ وَمُؤْنَتِهِ فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ ذَلِكَ فِي بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْهِدَامِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّتِهَا، فَتُنْفَقُ فِي بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ مُوصِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ تَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ مِنْهُ، وَتَمْلِيكُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ يَكُونُ إعْتَاقًا، فَيَصِيرُ ثُلُثُهُ مُدَبَّرَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَالْإِعْتَاقِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ؛ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ، وَعَتَقَ ثُلُثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَالُهُ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ يُنْظَرُ إلَى ثُلُثِي الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ ثُلُثِي الْعَبْدِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لَهُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ صَارَ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِي قِيمَةِ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ الزِّيَادَةُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عُرُوضًا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالتَّرَاضِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ، وَلَهُ الثُّلُثُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا الثُّلُثَ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى تَصِلَ إلَيْهِمْ السِّعَايَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ كُلُّهُ وَيَكُونُ الْعِتْقُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا.
فَإِنْ زَادَ الثُّلُثُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ، فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْفَضْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا تَمْنَعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُوصَى بِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَلَا تُفِيدُ الْوَصِيَّةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْخِيَارُ إلَى الْوَارِثِ يُعْطَى أَيُّهُمَا شَاءَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصِي لَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا حَالَ حَيَّاتِهِ لَتَعَيَّنَ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ عَجَزَ عَنْ التَّعْيِينِ بِنَفْسِهِ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ شَاعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ كَمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ إنَّ الْعِتْقَ يَشِيعُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ كَذَا هاهنا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوصَى لَهُ عِنْدُ الْمَوْتِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا يُقَامُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوصِي فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْإِيجَابِ الصَّحِيحِ.
وَلَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ الْمُوصِي لَوْ بَيَّنَ الْوَصِيَّةَ فِي أَحَدِهِمَا حَالَ حَيَاتِهِ صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءُ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ وَصِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ.
وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ فَأَوْصَى بِأَرْفَعِهِمَا لِرَجُلٍ وَبِأَخَسِّهِمَا لِآخَرَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ فَالْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَخْذِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اجْتَمَعَا، أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا، وَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْوَصِيَّةَ لِقَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ، وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْهُمْ، وَهُمْ مَجْهُولُونَ، وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا لَا يَصِحُّ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَاءِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إلَّا بِكِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ إنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَحْصِيهِمْ مُحْصٍ حَتَّى يُولَدَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ، وَيَمُوتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ، فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ كَانَ وَصِيَّتُهُ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَالْأَفْضَلُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ لِمَنْ يَقْرُبُ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي، وَاحِدٍ فَمَا زَادَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا إلَّا نِصْفَ الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُحْصَوْنَ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْ مَجْهُولٍ، فَلَمْ تَصِحَّ.
وَلَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَسَاكِينِهِمْ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَكِنْ عِنْدَهُمْ اسْمُ الْفَقِيرِ.
وَالْمِسْكِينِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ لَا لِمَرْضَاةِ الْفَقِيرِ، فَيَقَعُ الْمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يَتَمَلَّكُونَ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ؛ وَلِذَا كَانَ إيجَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ، وَإِذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَلَوْ صَرَفَ الْوَصِيُّ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهُمْ إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْفُقَرَاءَ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ مَقَامَ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ.
وَكَذَا الِاثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي نَقْصِ حَقِّ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قِيَامِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْجَمْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَمُرَاعَاةُ مَعْنَى الِاسْمِ، وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إلْزَامُ الْمَالِ حَقًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجِنْسُ الْفُقَرَاءِ مَصْرِفٌ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْفُقَرَاءِ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِإِيجَابِ الْحَقِّ لَهُمْ، فَيَجِبُ الْحَقُّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ يُصْرَفُ إلَى مَنْ ظَهَرَ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصَرْفِ حَقِّهِ الْمَآلُ إلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ بِصَرْفِهِ إلَى، فَقِيرٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ مَا وَجَبَ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}.
وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ مَعْنَى الْجَمْعِ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، فَلَا بَلْ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُ بَنِي آدَمَ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ حَتَّى يَحْنَثَ بِوُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ، وَهَاهُنَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ أَنَّهُ لَا يُصْرَفُ كُلُّ الثُّلُثِ إلَيْهِ بَلْ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا الْتَزَمَ الْمَالَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ بَلْ مَلَّكَهُ لِلْمَوَالِي، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، فلابد مِنْ اعْتِبَارِهِ.
وَكَذَا ذَلِكَ الْجَمْعُ لَهُ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ مُمْكِنًا، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ جَمْعِ الْفُقَرَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَبَنُو فُلَانٍ قَبِيلَةٌ لَا تُحْصَى، وَلَا يُحْصَى فُقَرَاؤُهُمْ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، فَلَأَنْ تَصِحَّ لِفُقَرَاءِ الْقَبِيلَةِ أَوْلَى.
فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِفُقَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ، وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ.
(وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ أَبَا قَبِيلَةٍ بَلْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ يُعْرَفُ بِأَبِي فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ أَبَا قَبِيلَةٍ مِثْلَ تَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَوَائِلٍ، فَإِنْ كَانَ بَنُوهُ يُحْصَوْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَقَدْ قَصَدَ الْمُوصِي تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْهُمْ لَا الْإِخْرَاجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَعْلُومًا، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَغْنِيَاءِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ يُحْصَوْنَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَبُ الْقَبِيلَةِ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْقَبِيلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مِنْ يُنْتَسَبُ إلَى فُلَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَصَارَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ لِبَنِي فُلَانٍ مَوَالِي عَتَاقَةٌ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا مَوَالِي مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ.
وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُمْ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ هُوَ الْقَبِيلَةُ لَا أَبْنَاؤُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُنْتَمُونَ إلَيْهِمْ، وَالْحُلَفَاءُ، وَالْمَوَالِي يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ، وَيَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ فِي الْعُرْفِ، وَالشَّرْعِ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ: وَعَبِيدُهُمْ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْبُنُوَّةِ، فَصَارَ عِبَارَةً عَمَّنْ يَقَعُ بِهِمْ لَهُمْ التَّنَاصُرُ، وَالْمَوَالِي يَقَعُ بِهِمْ لَهُمْ التَّنَاصُرُ.
وَكَذَا الْحَلِيفُ، وَالْعَدِيدُ إذْ الْحَلِيفُ هُوَ الَّذِي حَلَفَ لِلْقَبِيلَةِ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُمْ حَلَفُوا لَهُ كَذَلِكَ، وَالْعَدِيدُ هُوَ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَلِفٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهِ الْمَوَالِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ وَالْمَوَالِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ هَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَنِي فُلَانٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ يُحْصَوْنَ، وَفُلَانٌ أَبٌ خَاصٌّ لَهُمْ، وَلَيْسَ بِأَبِي قَبِيلَةٍ حَيْثُ كَانَ الثُّلُثُ لِبَنِي صُلْبِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى الْعُرْفُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُنْتَسِبَ إلَيْهِمْ، فَبَقِيَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بَنُو بَنِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ زَيْدًا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يَقُولُ الْمُعْتَقُ أَنَا مِنْ بَنِي زَيْدٍ إذَا كَانَ زَيْدٌ أَبًا خَاصًّا، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَبَا قَبِيلَةٍ يَقُولُ: الْمُعْتَقُ أَنَا مِنْ بَنِي زَيْدٍ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ، وَقَعَتْ لَهُمْ تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَجْهُولُونَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا، وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الِابْنِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لُغَةً، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمِلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُجْعَلْ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ أَبَا نَسَبٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ يُعْرَفُ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ سِيرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ ذُكُورًا دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْبَنِينَ لِلذُّكُورِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ الِابْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ إنَاثًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ عِنْدَ انْفِرَادِهِنَّ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبِيهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنَّ الذُّكُورَ مَعَ الْإِنَاثِ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الذُّكُورُ الْإِنَاثَ، وَيَتَنَاوَلُ اسْمَ الذُّكُورِ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ؛ وَلِهَذَا تَتَنَاوَلُ الْخِطَابَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاسْمِ الْجَمْعِ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ جَمِيعًا، فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَهُمَا اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَنِينَ جَمْعُ ابْنٍ، وَالِابْنُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ حَقِيقَةً.
وَكَذَا الْبَنُونَ، فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الذُّكُورَ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ بِصِيغَتِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ شَكَوْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَاطِبُ الرِّجَالَ دُونَنَا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ، فَلَوْ كَانَ خِطَابُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُهُنَّ لَمْ يَكُنْ لِشِكَايَتِهِنَّ مَعْنًى، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ أَوْ بَطْنٍ أَوْ فَخِذٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْقَبِيلَةِ، وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ لَا يُرَادُ بِهَا الْأَعْيَانُ.
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْقَبِيلَةِ، وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي النِّسْبَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ الْإِنَاثَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ ذَكَرٌ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ الْإِنَاثَ اللَّاتِي لَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ، فَإِنْ كَانَ لِفُلَانٍ بَنُو صُلْبٍ وَبَنُو ابْنٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الصُّلْبِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ فِي الْحَقِيقَةِ.
(وَأَمَّا) بَنُو الِابْنِ، فَبَنُو بَنِيهِ حَقِيقَةً لَا بَنُوهُ، وَإِنَّمَا يُسَمَّوْنَ بَنِيهِ مَجَازًا، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَنُو الصُّلْبِ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الِابْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ مَجَازًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ.
وَأَمَّا أَبْنَاءُ الْبَنَاتِ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ كَأَبْنَاءِ الْبَنِينَ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ لِصُلْبِهِ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَقَدْ وُجِدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوَصِيَّةِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ؛ صُرِفَ نِصْفُ الثُّلُثِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ فِي الْوَاحِدِ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ كُلَّ الْوَصِيَّةِ بَلْ النِّصْفَ، وَيُرَدُّ النِّصْفُ الْبَاقِي إلَى، وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ، وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ وَابْنُ ابْنِهِ، فَالنِّصْفُ لِابْنِهِ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا النِّصْفُ لِابْنِهِ، وَمَا بَقِيَ، فَلِابْنِ ابْنِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً سَقَطَ الْمَجَازُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْمٌ لِلثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَجَازُ مَا انْتَقَلَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلِّهِ، وَمُنْتَقِلًا عَنْ مَحَلِّهِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ، فَلَا شَيْءَ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَدُ الصُّلْبِ إذَا كَانَ حَيًّا يَسْقُطُ مَعَهُ، وَلَدُ الْوَلَدِ غَيْرَ أَنَّ وَلَدَ الصُّلْبِ هاهنا الْبَنَاتُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَاسْمُ الْبَنِينَ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَنَاتِ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ إذَا لَمْ يُجَزْ أَوْلَادُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ، وَيَتَنَاوَلُهُمَا الِاسْمُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَصَارُوا كَالْبَطْنِ الْوَاحِدِ، فَيَشْتَرِكُ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِإِخْوَةِ فُلَانٍ، وَهُمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- هُوَ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ لَا يُزَادُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ، فَالذَّكَرُ فِيهِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِلْمَوْلُودِ، وَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَامِلٌ دَخَلَ مَا فِي بَطْنِهَا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ الْحَمْلُ يَدْخُلُ فِي الْمِيرَاثِ، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنَاتِهِ دُونَ بَنِي ابْنِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ لِلْبَنَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ حَقِيقَةٌ وَلِأَوْلَادِ الِابْنِ مَجَازٌ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدُ صُلْبٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ الِابْنِ يَسْتَوِي فِيهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ، وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِيهَا كَوَلَدِ الْبَنِينَ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا أَخَذَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- رِوَايَتَانِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبَوَيْهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَبِيهِ وَوَلَدُ أُمِّهِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ وَلَدُ ابْنِهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَكَذَا وَلَدُ بِنْتِهِ؛ وَلِهَذَا يُضَافُ أَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا، فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ ابْنَيَّ لَسَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وَكَذَا يُقَالُ لِسَيِّدِنَا عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَسَبُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إلَى آبَائِهِمْ لَا إلَى أَبُ الْأُمِّ قَالَ الشَّاعِرُ بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ قُلْنَا: نَعَمْ، وَبِنْتُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ وَلَدُهَا وَلَدَهُ حَقِيقَةً بِوَاسِطَتِهَا حَتَّى تَثْبُتَ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ فِي حَقِّهِ، كَمَا تَثْبُتُ فِي أَوْلَادِ الْبَنِينَ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأُمَّهَاتِ مَهْجُورٌ عَادَةً، فَلَا يُنْسَبُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ إلَى آبَاءِ الْأُمَّهَاتِ بِوَسَاطَتِهِنَّ، وَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ النِّسْبَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا، فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَمْ تُهْجَرْ نِسْبَتُهُمْ إلَيْهَا، فَيُنْسَبُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَتِهَا، وَقِيلَ إنَّهُمْ خُصُّوا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَشْرِيفًا وَإِكْرَامًا لَهُمْ، وَقَدْ رَوَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي هَذَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ بَنِي بِنْتٍ بَنُو أَبِيهِمْ إلَّا أَوْلَادَ، فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَإِنَّهُمْ أَوْلَادِي»، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَلَدٌ وَاحِدٌ، فَالثُّلُثُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ الْوَاحِدَ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ قَالَ هِشَامٌ: سَأَلَتْ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَقَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنَيَّ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، فَكَمْ يُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ قَالَ: ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ شَاءُوا أَعْطُوهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَتَانِ، وَابْنٌ قَالَ: فَكَذَلِكَ أَيْضًا قُلْت فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَبِنْتٌ أَوْ ابْنَانِ وَبِنْتَانِ أَوْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَقَالَ: قَدْ أَوْصَيْت: لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنِي، فَقَالَ: يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ فِي هَذَا نَصِيبُ ابْنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: أَحَدَ ابْنِي وَلَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ عُلِمَ أَنَّهُ سَمَّى الْأُنْثَى ابْنًا لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ الذَّكَرِ، فَدَخَلَتْ فِي الْكَلَامِ، فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْوَصِيَّةَ عَلَى نَصِيبِهِمَا، وَإِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ، وَبَنَاتٌ أَوْ ابْنَانِ وَبَنَاتٌ فَقَالَ: أَحَدُ بَنِيَّ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ، فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى نَصِيبِ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ نَصِيبِ الْبَنَاتِ قَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَإِذَا كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَابْنٌ أَوْ ابْنٌ وَبِنْتَانِ أَوْ ابْنٌ وَبَنَاتٌ فَالِابْنُ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ بَنِينَ.
وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، فلابد مِنْ إدْخَالِ الْإِنَاثِ مَعَهُ، فَحُمِلَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِهِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّ الِاسْمَ يُحْمَلُ عَلَى الذُّكُورِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ يَتَامَاهُمْ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ، فَأَمْكَنَ إيقَاعُهَا تَمْلِيكًا مِنْهُمْ، فَصَحَّتْ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى هَذِهِ السِّكَّةِ، أَوْ هَذِهِ الدَّارِ، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى.
وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» قَدْ سُمُّوا يَتَامَى، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ، فَكُلُّ صَغِيرٍ مَاتَ أَبُوهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ لَا فَلَا، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَتُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صُرِفَتْ إلَى الْأَغْنِيَاءِ لَبَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ صُرِفَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ لَجَازَتْ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ، وَإِخْرَاجٌ لِلْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لُغَةً لَكِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ سَبَبِ الْحَاجَةِ، وَعَمَّا يُوجِبُ الْحَاجَةَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالِانْفِرَادَ عَنْ الْأَبِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ إذْ الصَّغِيرُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ، ولابد لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِإِيصَالِ مَنَافِعَ مَالِهِ إلَيْهِ، وَكَذَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ مَالِهِ، واسْتِنْمائِهِ، وَلَا بَقَاءَ لِلْمَالِ عَادَةً إلَّا بِالْحِفْظِ وَالِاسْتِنْمَاء، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَمَنْ انْقَطَعَتْ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مَالِهِ بِسَبَبِ بُعْدِهِ عَنْ مَالِهِ، وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ، فَصَارَ الِاسْم بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ مُنْبِئًا عَنْ الْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَ اللَّهُ لِلْيَتَامَى سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}.
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}، وَأَرَادَ بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ بِجَعْلِهِ إيصَاءً بِالصَّدَقَةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِزَمْنَى بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ الْحَاجَةِ عَادَةً، وَهُوَ الزَّمَانَةُ، وَالْعَمَى، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ إنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ بِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الِابْنِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَلَا مَا يُوجِبُ الْحَاجَةَ، وَهَاهُنَا، بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ، وَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْيَتَامَى، فَإِنْ صُرِفَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ صُرِفَ جَمِيعُ الثُّلُثِ إلَى، وَاحِدٍ؛ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَالْأَفْضَلُ لِلْمُوصِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظُ، وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْمُوصِي، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ سَوَاءٌ كُنَّ يُحْصَيْنَ، أَوْ لَا يُحْصَيْنَ أَمَّا إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ، فَلَا يُشْكِلُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ تَمْلِيكًا مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهِنَّ؛ لِكَوْنِهِنَّ مَعْلُومَاتٍ.
وَكَذَلِكَ إذَا كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْمَلَةَ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ بَالِغَةٍ، فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: الْأَرْمَلَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ، فَهُمْ مُرْمِلُونَ إذَا فَنِيَ زَادُهُمْ وَمَنْ فَنِيَ زَادُهُ كَانَ مُحْتَاجًا، فَكَانَ فِي الِاسْمُ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَتَقَعُ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ، وَإِخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الرِّجَالُ الَّذِينَ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ؟ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَدْخُلُونَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَدْخُلُ فِي كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنْ كَرْمَةِ فُلَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُتَبِيُّ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ جَرِيرٍ الشَّاعِرِ هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا، فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَرْمَلِ عَلَى الرَّجُلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الِاسْمِ لِلْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ رَوَى عَنْهُ أَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَقْرَانُهُمْ كَمَا رُوِينَا عَنْ الْخَلِيلِ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَقْرَانِهِمَا.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَرْمَلَةُ، وَلَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الْمَلِيحِ مِنْ الشِّعْرِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الشِّعْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ إذَا، فَنِيَ زَادُهُمْ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي فَنِيَ زَادُهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا مَاتَ، فَقَدْ فَنِيَ زَادُهَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ جَرِيرٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَلِيحِ الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ أَوْ هُوَ شَاذٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمِنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.
وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ** مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ

(وَمَعْلُومٌ) أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى أَيِّمًا لَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لِازْدِوَاجِهِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ تَتَأَيَّمِي كَذَا هَاهُنَا، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يُذْكَرُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَمْلِيحِ الشِّعْرِ، وَازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، أَوْ فِي الشُّذُوذِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَام وَالْأَوْهَامُ، وَذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ، فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْأَيِّمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِتُجْعَلَ، وَصِيَّتَهُ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَيِّمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ جُومِعَتْ فِي قُبُلِهَا، وَفَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَشَرَحَهُ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ الْأَيِّمُ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ فُجُورٍ، وَلَا زَوْجَ لَهَا غَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ فَقِيرَةً صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ إيصَاءً بِالتَّصَدُّقِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُنَّ لَا يُحْصَيْنَ إنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْمَلَةِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَجُعِلَ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ، ثُمَّ إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ حَتَّى جَازَتْ الْوَصِيَّةُ يَدْخُلُ فِيهَا الصَّغِيرَةُ، وَالْبَالِغَةُ، وَالْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي اللُّغَةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى الْأُنُوثَةِ وَحُلُولِ الْجِمَاعِ بِهَا فِي قُبُلِهَا وَفِرَاقِهَا زَوْجَهَا.
وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ حَتَّى يَجُوزَ إنْكَاحُ الصِّغَارِ، كَمَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْكِبَارِ، وَكَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وَلَوْ كَانَ مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} مَعْنًى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَيِّمَ اسْمٌ لِامْرَأَةِ جُومِعَتْ فِي قُبُلهَا، فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ الْبَلْخِيّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- إنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ.
وَكَذَا الْأُنُوثَةُ بَلْ يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَعَلَى الْبِكْرِ، وَيَقَعُ عَلَى الرَّجُلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبْرَ يَضُمُّ الْبِكْرَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا يَضُمُّ الثَّيِّبَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ أَيْ أَمْكُثُ بِلَا زَوْجٍ مَا مَكَثْتِ أَنْتِ بِلَا زَوْجٍ.
وَقَالَ آخَرُ: فَلَا تَنْكِحَنْ جَبَّارَةً إنَّ شَرَّهَا عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَيَّمَا، وَالْجَوَابُ أَنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ مَا حَكَيْنَا عَنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَهُمْ أَهْلُ دَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، فَيُقْبَلُ نَقْلُهُمْ إيَّاهُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَمَا وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْفُصَحَاءِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ إمَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَالِازْدِوَاجِ أَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا الِاسْمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُنُوثَةَ أَصْلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ أَنَّهُ لَا يُدْخَلُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِيهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَلَا يُقَالُ أَيِّمَةٌ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى لَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِإِدْخَالِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمَرْأَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي صِفَةِ الْأَيِّمِ جُومِعَتْ بِفُجُورٍ، أَوْ غَيْرِ فُجُورٍ مَذْهَبُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ لَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ بِكْرٌ لَا أَيِّمٌ عِنْدَهُ حَتَّى تُزَوَّجَ، كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا أَيِّمٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ لِمُشَارَكَتِهَا الْأَبْكَارَ عِنْدَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ السُّكُوتُ مَقَامَ الرِّضَا نُطْقًا فِي حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ السُّكُوتِ، وَهُوَ الْحَيَاءُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ ثَيِّبٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ، أَوْ لَمْ تَبْلُغْ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفَقِيرَةُ وَالْغَنِيَّةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أَدْخَلَ فِيهِ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالْفَقِيرَاتِ وَالْغَنِيَّاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِيمَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَبْكَارًا فَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى ثَيِّبَاتٍ فَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّيِّبَاتِ بِالْأَبْكَارِ، وَهُنَّ اللَّاتِي لَمْ يُجَامَعْنَ، فَكَانَتْ الثَّيِّبَاتُ اللَّاتِي جُومِعْنَ لِتَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ، وَلَا تُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا زَوْجَهَا، بِخِلَافِ الْأَرْمَلَةِ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ كَذَا تَقْتَضِي، فَيُتَّبَعُ فِيهِ وَضْعُ أَرْبَابِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ»؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إطْلَاقٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلِازْدِوَاجِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لِأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جُومِعَتْ، وَلَيْسَ فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَالْمُتَمَلِّكُ مَجْهُولٌ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ بِكْرٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَجُوزُ إذَا كُنَّ مَحْصُوَّاتٍ لَمَا قُلْنَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ الْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ إذْ الْبِكْرُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ، وَلَا غَيْرِهِ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الذَّكَرِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الْمَجَازُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، أَوْ كَانَ لَهَا حَقِيقَةً، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْخَلْقِ عَلَى الْأُنْثَى، فَصَارَ بِحَالٍ لَا تَنْصَرِفُ أَوْهَامُ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ إلَّا إلَى الْأُنْثَى، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْمَجَازِ، وَلَوْ كَانَتْ عُذْرَتُهَا زَالَتْ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْوَثْبَةِ، أَوْ بِذَرُورِ الدَّمِ تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُجَامَعْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ مُحَمَّدًا- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالُوا إنَّ هَذِهِ أَيْضًا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الَّتِي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِفُجُورٍ لَا تَكُونُ بِكْرًا، وَلَا تَكُونُ لَهَا، وَصِيَّةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِي- رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنَّ هَذَا قَوْلَهُمَا (فَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، فَإِنَّهَا بِكْرٌ، وَتَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ حَقِيقَةً لِعَدَمِ حَدِّ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا تُزَوَّجُ تَزَوُّجَ الْأَبْكَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَاتِهِ، أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ، أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ سَوَاءٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْأَقْرَبِ، فَالْأَقْرَبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- يُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَجَمْعُ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَى مَنْ اتَّصَلَ بِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَبِسَيِّدِنَا الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا إلَى مَنْ فَوْقَهُمَا مِنْ الْآبَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: اعْتِبَارُ جَمْعِ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ لَفْظَ ذَوِي: لَفْظُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي بَابِ الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ أُلْحِقَتَا بِالثَّلَاثِ، فَصَاعِدًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، وَحَجْبُ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ عَلَى مَا مَرَّ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ اسْتَحَقَّ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كُلَّ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذِي لَيْسَ بِلَفْظِ جَمْعٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلٌ، وَالْوَلَدَ فَرْعُهُ وَجُزْؤُهُ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَرِيبِ.
وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} عَطَفَ الْأَقْرَبَ عَلَى الْوَالِدِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ؟ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْوَالِدُ، وَالْوَلَدُ كَذَا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ.
(وَأَمَّا) الثَّالِثُ فَلِمَا رُوِينَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا، وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمَحْرَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ، فَالْأَقْرَبُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَرِيبَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى، وَهُوَ الْقُرْبُ، وَقَدْ وُجِدَ الْقُرْبُ، فَيَتَنَاوَلُ الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ، وَغَيْرَهُ وَالْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَالْإِخْوَةُ لِأُمٍّ؛ لِكَوْنِهِ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ الْأُخُوَّةِ كَذَا هَذَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا، فَخَصَّ، وَعَمَّ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا»، وَكَذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرِيبٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِتَعَذُّرِ إدْخَالِ أَوْلَادِ سَيِّدِنَا آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ، فَتُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْإِسْلَامِ، وَالشَّرَفُ بِهِ، فَصَارَ الْجَدُّ الْمُسْلِمُ هُوَ النَّسَبُ، فَتَشَرَّفُوا بِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ أَوْ الرَّحِمِ، فَالْقَرَابَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاسْمِ يَتَكَامَلُ بِهَا.
وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَنَاقِصٌ، فَكَانَ الِاسْمُ لِلرَّحِمِ الْمُحْرَمِ لَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا أَوْ عَامًّا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَجَانِسٌ، وَلَا إلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَفَاوِتٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ لِمَا قُلْنَا حَقِيقَةً، وَلِغَيْرِهِ مَجَازًا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ، وَهُوَ الْإِخْوَةُ لَا يَتَفَاوَتُ، فَكَانَ اسْمًا عَامًا، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ هُوَ صِلَةُ الْقَرَابَةِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ هِيَ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ لَا تِلْكَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الدَّيِّنِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْإِخْوَةِ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عَلَى اخْتِلَافِ جِهَاتِهَا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- عَلَى زَعْمِهِمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ فِي زَمَانِهِمَا؛ لِأَنَّ أَقْصَى أَبِ الْإِسْلَامِ كَانَ قَرِيبًا يَصِلُ إلَيْهِ بِثَلَاثَةِ آبَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا، فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ، فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ وَأَوْلَادِ جَدِّهِ وَأَوْلَادِ جَدِّ أَبِيهِ وَإِلَى أَوْلَادِ أُمِّهِ وَأَوْلَادِ جَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، فَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَتِهِ بِأَنْ مَاتَ، وَتَرَكَ ابْنًا وَعَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ لَا لِلْخَالَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ، فَالْأَقْرَبُ، وَالْعَمَّانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْخَالَيْنِ، فَكَانَا أَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَ الْعَمَّيْنِ، وَالْخَالَيْنِ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ، فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَصَلَتْ بِاسْمِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْجَمْعِ فِي الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَمُّ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ هُوَ النِّصْفَ بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ أَقْرَبَ مِنْ الْخَالَيْنِ، فَكَانَ لَهُمَا، وَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَنِصْفُ الثُّلُثِ لِعَمِّهِ، وَالنِّصْفُ يُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَتَبْطُلُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَهُمَا يُصْرَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى ذِي الرَّحِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِهِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ جَمْعِهِ آبَاؤُهُمْ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ كَانَ عَلَوِيًّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ عَبَّاسِيًّا يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ سَوَاءٌ كَانَ بِنَفْسِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بَعْدَ إنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ مَنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَهْلُ بَيْتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَأَوْلَادِ النِّسَاءِ آبَاؤُهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْإِنْسَانِ أَبُوهُ وَمَنْ يُنْسَبُ إلَى بَيْتِهِ، فَالْأَبُ أَصْلُ الْبَيْتِ، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي أَبٍ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِنَسَبِهِ أَوْ حَسَبِهِ، فَهُوَ عَلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ كَانَ آبَاؤُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ.
وَكَذَلِكَ الْحَسَبُ، فَإِنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً، فَوَلَدَتْ مِنْهُ يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَيْهِ لَا إلَى أُمِّهِ، وَحَسْبُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ وَالْحَسَبَ يَخْتَصُّ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِجِنْسِ فُلَانٍ، فَهُمْ بَنُو الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ، وَلَا يَتَجَنَّسُ بِأُمِّهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسَهُ فِي النَّسَبِ.
وَكَذَلِكَ اللُّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِنْسِ، وَذَكَر الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، فَالْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجِنْسُ وَاللُّحْمَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الطَّرَفَيْنِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِآلِ فُلَانٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ يَعُولُهُمْ فُلَانٌ مِمَّنْ تَضُمُّهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْأَحْرَارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ وَالْيَتِيمُ فِي حِجْرِهِ، وَالْوَلَدُ إذَا كَانَ يَعُولُهُ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا قَدْ اعْتَزَلَ عَنْهُ، أَوْ كَانَ بِنْتًا قَدْ تَزَوَّجَتْ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَمَالِيكُهُ، وَلَا وَارِثُ الْمُوصِي، وَلَا الْمُوصَى لِأَهْلِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}.
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْأَهْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يُقَال: فُلَانٌ مُتَأَهِّلٌ وَفُلَانٌ لَمْ يَتَأَهَّلْ، وَفُلَانٌ لَهُ أَهْلٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَيُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ، فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمَالِيكُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْمَوْلَى، وَلَا يَدْخُل فِيهِ وَارِثُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْهُ لَا يَدْخُلُ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى، وَلَا يَدْخُلُ فُلَانٌ الَّذِي أَوْصَى لِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ إنَّ فُلَانًا لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِخْوَتِهِ، وَلَهُ سِتَّةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَهُ أَوْلَادٌ يَحُوزُونَ مِيرَاثَهُ، فَالثُّلُثُ بَيْنَ إخْوَتِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَقْرِبَاءِ فُلَانِ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ.
وَأَمَّا الْأُخُوَّةُ، فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ هَذَا أَكْثَرُ أُخُوَّةٍ مِنْ فُلَانٍ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ، وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثُلُثُ ذَلِكَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ، وَلَا يُقَالُ: إذَا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ الثُّلُثِ إلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ هَكَذَا لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَة إلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ، وَأُمٍّ وَإِلَى الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِمْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ، وَصَارَ هَذَا كَرَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ، فَمَاتَ اثْنَانِ مِنْهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلِلْبَاقِي مِنْهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمْ، وَقَعَتْ صَحِيحَةً كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِضَافَةَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ أَصْلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْإِضَافَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي الصِّلَةِ وَلَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ وَبَنُو أَخٍ وَبَنُو أُخْتٍ: يُوضَعُ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِ قَرَابَتِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ يُرَادُ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَخْتَانِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْأَخْتَانُ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَات، وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ، فَكُلُّ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمُوصِي، فَزَوْجُهَا مِنْ أَخْتَانِهِ، وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَخْتَانِهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَخْتَانُ إلَّا أَزْوَاجَ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ الْأَخْتَانِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ نِسَاءِ الْمُوصِي أَيْ: زَوْجَاتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الزَّوْجَةِ، فَهُوَ صِهْرٌ، وَلَيْسَ بِخَتَنٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي الْإِمْلَاءِ أَيْضًا إذَا قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِأَخْتَانِي، فَأَخْتَانُهُ أَزْوَاجُ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ، وَبِنْتُ أُخْتٍ، وَخَالَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ زَوْجٌ، وَلِزَوْجِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَبٌ، فَكُلُّهُمْ جَمِيعًا أَخْتَانٌ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ الذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، أُمُّ الزَّوْجِ، وَأَخْتَانُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَخْتَانَ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِأَصْهَارِي، فَهُوَ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَزَوْجَةِ أَبِيهِ، وَزَوْجَةِ ابْنِهِ، وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَصْهَارُهُ، وَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الزَّوْجَةُ، وَلَا امْرَأَةُ أَبِيهِ، وَلَا امْرَأَةُ أَخِيهِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَالدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَصْهَارَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَتَزَوَّجَهَا أَعْتَقَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا».
وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَصْهَارَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَوْصَى فَقَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِجِيرَانِي، فَهُوَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ لِدَارِهِ مِنْ السُّكَّانِ عَبِيدًا كَانُوا أَوْ أَحْرَارًا نِسَاءً كَانُوا أَوْ رِجَالًا ذِمَّةً كَانُوا أَوْ مُسْلِمِينَ بِالسَّوِيَّةِ قَرُبَتْ الْأَبْوَابُ، أَوْ بَعُدَتْ إذَا كَانُوا مُلَاصِقِينَ لِلدَّارِ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ الْجِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِمَّنْ يَضُمُّهُمْ مَسْجِدٌ، أَوْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَدَعْوَةٌ وَاحِدَةٌ، فَهَؤُلَاءِ جِيرَانُهُ فِي كَلَامِ النَّاسِ.
وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَوْصَى لِجِيرَانِهِ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ لَلْمُلَاصِقِينَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لَلسَّكَّانِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ تِلْكَ الدُّورَ الَّتِي تَجِبُ لِأَجْلِهَا الشُّفْعَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ دَارٌ فِي تِلْكَ الدُّورِ، وَلَيْسَ بِسَاكِنٍ فِيهَا، فَلَيْسَ مِنْ جِيرَانِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَأَمَّا أَنَا، فَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَ الْوَصِيَّةَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّورَ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا، وَلِمَنْ يَجْمَعُهُ مَسْجِدُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي فِيهَا الْمُوصِي مِنْ الْمُلَاصِقِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ السُّكَّانِ مِمَّنْ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ، وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ فِي الْوَصِيَّةِ الْأَقْرَبُونَ، وَالْأَبْعَدُونَ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُسْلِمُ، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ، وَالْمُدَبَّرِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ.
(وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُونَ، فَهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانُوا سُكَّانًا فِي الْمَحَلَّةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ اسْمَ الْجَارِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمُلَاصِقِ يَقَعُ عَلَى الْمُقَابِلِ، وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى جَارًا.
وَقَالَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» (وَرُوِيَ) أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَّرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْجَارِ هُوَ الْبِرُّ بِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُلَاصِقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْجِوَارَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الِاتِّصَالُ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ بِلَا حَائِلٍ بَيْنَهُمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ، فَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَلَا يَكُونُ مُجَاوِرًا حَقِيقَةً، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْمُلَاصِقِ لَا لِلْمُقَابِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَارٍ حَقِيقَةً (وَمُطْلَقُ) الِاسْمِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِيرَانَ الْمُلَاصِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا حَالَ حَيَاتِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَضَاءَ حَقٍّ كَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَى الْجِيرَانِ الْمُلَاصِقِينَ إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ السُّكْنَى فِي الْمِلْكِ الْمُلَاصِقِ لِمِلْكِ الْمُوصِي، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ جَارٌ لَهُ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ جَارُ الْمَسْجِدِ، وَجَارُ الْمَسْجِدِ فَسَّرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِذَا أَوْصَى لِمَوَالِي فُلَانٍ، وَهُوَ أَبُو فَخِذٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ لِبَنِي فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَوَالِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَلِبَنِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ، وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَيَصِيرُ كَالْمَنْطُوقِ بِمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: نَصُّ هَذَا ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ كَانَ الْجَوَابُ مَا قُلْنَا كَذَا هَاهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ أَبَا فَخِذٍ أَوْ قَبِيلَةٍ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا عُرْفَ فَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِمَوَالِي فُلَانٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ جَمِيعُ مَنْ نَجَّزَ عَتَاقَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَفِي مَرَضِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ، وَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ بَعْدَ أَنْ نَجَّزَ إعْتَاقُهُ صَارَ مَوْلًى بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، فَأَمَّا الْمُدَبَّرُونَ، وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، فَهَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؟ (رُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ تَعَلُّقَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ، وَهُمْ مَوَالِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوَصِيَّةَ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَوَانَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ أَوَانُ عِتْقِهِمْ، فَيُعْتَقُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ يَصِيرُونَ مَوَالِيهِ بَعْدَهُ، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتْ مَنْ كَانَ مَوْلًى عِنْدَ مَوْتِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ (وَلَوْ كَانَ) قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ عَتَقَ، وَدَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الضَّرْبِ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ حُصُولِهِ مِنْ قِبَلِهِ، فَيَصِيرُ مَوْلًى لَهُ، ثُمَّ يَعْتِقُهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ، فَكَانَ مَوْلًى وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ، وَوُجُوبِهَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.